مضمون ما جرى لنوح مع قومه -01-
صفحة 1 من اصل 1
مضمون ما جرى لنوح مع قومه -01-
وأما مضمون ما جرى له مع قومه مأخوذاً من الكتاب والسنة والآثار ، فقد قدمنا عن ابن عباس : أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام ، رواه البخاري وذكرنا أن المراد بالقرن الجيل أو المدة على ما سلف
ثم بعد ذلك القرون الصالحة حدثت أمور اقتضت أن آل الحال بأهل ذلك الزمان إلى عبادة الأصنام
وكان سبب ذلك ما رواه البخاري من حديث ابن جريح عن عطاء عن ابن عباس عند تفسير قولهم تعالى : " وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا " قال : هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً وسموها بأسمائهم ، ففعلوا فلم تعبد ، حتى إذا هلك أولئك وانتسخ العلم عبدت
قال ابن عباس : وصارت هذه الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد وهكذا قال عكرمة والضحاك وقتادة ومحمد ابن إسحاق
قال ابن جرير في تفسيره : حدثنا ابن حميد ، حدثنا مهران عن سفيان ، عن موسى ، عن محمد بن قيس قال : كانوا قوماً صالحين بين آدم ونوح ، وكان لهم أتباع يقتدون بهم ، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم : لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إلى ذكرناهم ، فصورهم فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال : إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم
وروى ابن أبي حاتم عن عروة ابن الزبير أنه قال : ود ويغوث ويعوق وسواع ونسر ، أولاد آدم وكان ود أكبرهم وأبرهم به
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور ، حدثنا الحسن بن موسى ، حدثنا يعقوب عن أبي المطهر ، قال ذكروا عند أبي جعفر - هو الباقر - وهو قائم يصلي يزيد بن المهلب ، قال فلما انفتل من صلاته قال : ذكرتم يزيد بن المهلب ، أما أنه قتل في أول أرض عبد فيها غير الله تقعالى قال ذكر وداً قال : كان رجلاً صالحاً ، وكان محبباً في قومه ، فلما مات عكفوا حول قبره في أرض بابل وجزعوا عليه ، فلما رأى إبليس جزعهم عليهم تشبه في صورة إنسان ثم قال : إني أرى جزعكم على هذا الرجل ، فهل لكم أن أصور لكم مثله فيكون في ناديكم فتذكرونه به ؟ قالوا : نعم ، فصور لهم مثله ، قال : فوضعوه في ناديهم وجعلوا يذكرونه فلما رأى ما بهم من ذكره قال : هل لكم أن أجعل في منزل كل واحد منكم تمثالاً مثله ليكون له في بيته فتذكرونه ؟ قالوا : نعم ، قال : فمثل لكل أهل بيت تمثالاً مثله ، فأقبلوا فجعلوا يذكرونه به ، قال : وأدرك أنباؤهم فجعلوا يرون ما يصنعون به ، قال : وتناسلوا ودرس أمر ذكرهم إياه حتى اتخذوه إلهاً يعبدونه من دون الله أولاد أولادهم ، فكان أول ما عبد غير الله ود الصنع الذي سموه وداً
ومقتضى هذا السياق أن كل صنم من هذه عبده طائفة من الناس ، وقد ذكر أنه لما تطاولت العهود والأزمان ، جعلوا تلك الصور تماثيل مجسدة ليكون أثبت لها ، ثم عبدت بعد ذلك من دون الله عز وجل ولهم في عبادتها مسالك كثيرة جداً قد ذكرناها في مواضعها من كتابنا التفسير ولله الحمد والمنة
وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه لما ذكرت عنده أم سلمة وأم حبيبة ، تلك الكنيسة التي رأينها بأرض الحبشة ، ويقال لها مارية وذكرتا من حسنها وتصاوير فيها قال : " أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً ، ثم صوروا فيه تلك الصورة ، أولئك شرار الخلق عند الله عز وجل "
* * *
والمقصود أن الفساد لما اتنشر في الأرض وعم البلاء بعبادة الأصنام فيها ، بعث الله عبده ورسوله نوحاً عليه السلام ، يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، وينهي عن عبادة ما سواه
فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض ، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي حيان ، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة ، قال : " فيأتون آدم فيقولون : يا آدم أنت أبو البشر ، خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من ورحه ، وأمر الملائكة فسجدوا لك وأسكنك الجنة ، ألا تشفع لنا إلى ربك ؟ ألا ترى ما نحن فيه وما بلغنا ؟ فيقول : ربي قد غضب غضباً شديداً لم يغضب قبله مثله ، ولا يغضب بعده مثله ، ونهاني عن شجرة فعصيت ، نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح
فيأتون نوحاً فيقولون : يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض ، وسماك الله عبداً شكوراً ، ألا ترى إلى ما نحن فيه ألا ترى إلا ما بلغنا ؟ ألا تشفع لنا إلى ربك عز وجل ؟ فيقول : ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله ، نفسي نفسي " وذكر تمام الحديث كا أورده البخاري في قصة نوح
فما بعث الله نوحاً عليه السلام ، دعاهم إلى إفراد عبادة الله وحده لا شريك له ، وألا يعبدوا معه صنماً ولا تمثالاً ولا طاغوتاً وأن يعترفوا بوحدانيته ، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه ، كما أمر الله تعالى من بعده من الرسل الذي هم كلهم من ذريته ، كما قال تعالى : " وجعلنا ذريته هم الباقين " وقال فيه وفي إبراهيم : " وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب " ، أي كل نبي من بعد نوح فمن ذريته ، وكذلك إبراهيم
قال الله تعالى : " ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت " وقال تعالى : " واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون " وقال تعالى : " وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون "
ولهذا قال نوح لقومه : " اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم " وقال : " أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم " وقال : " يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون " وقال : " يا قوم إني لكم نذير مبين * أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون " : و" وقد خلقكم أطوارا " الآيات الكريمات
فذكر أنهم دعاهم إلى الله بأنواع الدعوة في الليل والنهار ، والسر والإجهار ، بالترغيب تارة والترهيب أخرى ، وكل هذا لم ينجح فيهم ، بل استمر أكثرهم على الضلالة والطغيان ، وعبادة الأصنام والأوثان ، ونصبوا له العداوة في كل وقت وأوان ، وتنقصوه وتنقصوا من آمن به ، وتوعدهم بالرجم والإخراج ، ونالوا منهم وبالغوا في أمرهم
" قال الملأ من قومه " أي السادة الكبراء منهم : " إنا لنراك في ضلال مبين "
" قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين " أي لست كما تزعمون من أني ضال ، بل على الهدى المستقيم رسول من رب العالمين ، أي الذي يقول للشيء كن فيكون : " أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون " وهذا شأن الرسول أن يكون بليغاً ، أي فصيحاً ناصحاً ، أعلم الناس بالله عز وجل
وقالوا له فيما قالوا : " ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين "
تعجبوا أن يكون بشر رسولاً وتنقصوا من اتبعه ورأوهم أراذلهم ، وقد قيل إنهم كانوا من أفناد الناس وهم ضعفاؤهم ، كما قال هرقل : وهم أتباع الرسل ، وما ذاك إلا لأنه لا مانع لهم من اتباع الحق
وقولهم : " بادي الرأي " أي بمجرد ما دعوتهم استجابوا لك من غير نظر ولا روية وهذا الذي رموهم به هو عين ما يمدحونه بسببه رضي الله عنهم ، فإن الحق الظاهر لا يحتاج إلى روية ولا فكر ولا نظر ، بل يجب اتباعه واإنقياد له متى ظهر
ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مادحاً للصديق : " ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت له كبوة غير أبي بكر ، فإنه لم يتلعثم " ، ولهذا كانت بيعته يوم السقيفة أيضاً سريعة من غير نظر ولا روية ، لأن أفضليته على من عداه ظاهرة جلية عند الصحابة رضي الله عنهم ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يكتب الكتاب الذي أراد أن ينص فيه على خلافته فتركه ، قال : " يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر " رضي الله عنه
وقوله كفرة قوم نوح له ولمن آمن به : " وما نرى لكم علينا من فضل " أي لم يظهر لكم أمر بعد اتصافكم بالإيمان ولا مزية علينا " بل نظنكم كاذبين * قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون
وهذا تلطف في الخطاب معهم : ترفق بهم في الدعوة إلى الحق ، كما قال تعالى : " فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى " وقال تعالى : " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن " وهذا منه
يقول لهم : " أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده " أي النبوة والرسالة ، " فعميت عليكم " أي فلم تفهموها ولم تهتدوا إليها ، " أنلزمكموها " أي أنغصبكم بها ونجبركم عليها ؟ " وأنتم لها كارهون " أي ليس لي فيكم حيلة والحالة هذه ، " ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله " أي لست أريد منكم أجرة على إبلاغي إياكم ما ينفعكم في دنياكم وأخراكم ، أن أطلب ذلك إلا من الله الذي ثوابه خير لي ، وأبقى مما تعطوني أنتم
وقوله : " وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون " كأنهم طلبوا منه أن يبعد هؤلاء عنه ، ووعدوه أن يجتمعوا به إذا هو فعل ذلك ، فأبى عليهم ذلك ، وقال : " إنهم ملاقوا ربهم " أي فأخاف إن طردتهم أفلا تذكرون
ولهذا سأل كفار قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرد عنه ضعفاء المؤمنين ، كعمار وصهيب وبلال وخباب وأشباههم ، نهاه الله عن ذلك ، كما بيناه في سورتي الأنعام والكهف
" ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك " أي بل أنا عبد رسول ، لا أعلم من علم الله إلا ما أعلمني به ولا أقد إلا على ما أقدرني عليه ، ولا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله : " ولا أقول للذين تزدري أعينكم " يعني من أتباعه " لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين " أي لا أشهد عليهم بأنهم لا خير لهم عند الله يوم القيامة ، الله أعلم بهم وسيجازيهم على ما في نفوسهم إن خيراً فيخر وإن شراً فشر ، كما قالوا في المواضع الأخر : " أنؤمن لك واتبعك الأرذلون * قال وما علمي بما كانوا يعملون * إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون * وما أنا بطارد المؤمنين * إن أنا إلا نذير مبين "
* * *
وقد تطاول الزمان والمجادلة بينه وبينهم كما قال تعالى : " فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون " أي ومع هذه المدة الطويلة فما آمن به إلا القليل منهم
وكان كلما انقرض جيل وصوا من بعدهم بعدم الإيمان به ومحاربته ومخالفته وكان الوالد إذا بلغ ولد وعقل عنه كلامه ، وصاه فيما بينه وبينه ، ألا يؤمن بنوح أبداً ما عاش ودائماً ما بقي
وكانت سجاياهم تأبى الإيمان وإتباع الحق ، ولهذا قال : " ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا "
ولهذا : " قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين * قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين " أي إنما يقدر على ذلك الله عز وجل ، فإنه الذي لا يعجزه شيء ولا يكترثه أمر ، بل هو الذي يقول للشيء كن فيكون
" ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون " أي من يرد الله فتنته فلن يملك أحد هدايته ، هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، وهو الفعال لما يريد ، وهو العزيز الحكيم ، العليم بمن يستحق الهداية ومن يستحق الغواية ، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة
ثم بعد ذلك القرون الصالحة حدثت أمور اقتضت أن آل الحال بأهل ذلك الزمان إلى عبادة الأصنام
وكان سبب ذلك ما رواه البخاري من حديث ابن جريح عن عطاء عن ابن عباس عند تفسير قولهم تعالى : " وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا " قال : هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً وسموها بأسمائهم ، ففعلوا فلم تعبد ، حتى إذا هلك أولئك وانتسخ العلم عبدت
قال ابن عباس : وصارت هذه الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد وهكذا قال عكرمة والضحاك وقتادة ومحمد ابن إسحاق
قال ابن جرير في تفسيره : حدثنا ابن حميد ، حدثنا مهران عن سفيان ، عن موسى ، عن محمد بن قيس قال : كانوا قوماً صالحين بين آدم ونوح ، وكان لهم أتباع يقتدون بهم ، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم : لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إلى ذكرناهم ، فصورهم فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال : إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم
وروى ابن أبي حاتم عن عروة ابن الزبير أنه قال : ود ويغوث ويعوق وسواع ونسر ، أولاد آدم وكان ود أكبرهم وأبرهم به
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور ، حدثنا الحسن بن موسى ، حدثنا يعقوب عن أبي المطهر ، قال ذكروا عند أبي جعفر - هو الباقر - وهو قائم يصلي يزيد بن المهلب ، قال فلما انفتل من صلاته قال : ذكرتم يزيد بن المهلب ، أما أنه قتل في أول أرض عبد فيها غير الله تقعالى قال ذكر وداً قال : كان رجلاً صالحاً ، وكان محبباً في قومه ، فلما مات عكفوا حول قبره في أرض بابل وجزعوا عليه ، فلما رأى إبليس جزعهم عليهم تشبه في صورة إنسان ثم قال : إني أرى جزعكم على هذا الرجل ، فهل لكم أن أصور لكم مثله فيكون في ناديكم فتذكرونه به ؟ قالوا : نعم ، فصور لهم مثله ، قال : فوضعوه في ناديهم وجعلوا يذكرونه فلما رأى ما بهم من ذكره قال : هل لكم أن أجعل في منزل كل واحد منكم تمثالاً مثله ليكون له في بيته فتذكرونه ؟ قالوا : نعم ، قال : فمثل لكل أهل بيت تمثالاً مثله ، فأقبلوا فجعلوا يذكرونه به ، قال : وأدرك أنباؤهم فجعلوا يرون ما يصنعون به ، قال : وتناسلوا ودرس أمر ذكرهم إياه حتى اتخذوه إلهاً يعبدونه من دون الله أولاد أولادهم ، فكان أول ما عبد غير الله ود الصنع الذي سموه وداً
ومقتضى هذا السياق أن كل صنم من هذه عبده طائفة من الناس ، وقد ذكر أنه لما تطاولت العهود والأزمان ، جعلوا تلك الصور تماثيل مجسدة ليكون أثبت لها ، ثم عبدت بعد ذلك من دون الله عز وجل ولهم في عبادتها مسالك كثيرة جداً قد ذكرناها في مواضعها من كتابنا التفسير ولله الحمد والمنة
وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه لما ذكرت عنده أم سلمة وأم حبيبة ، تلك الكنيسة التي رأينها بأرض الحبشة ، ويقال لها مارية وذكرتا من حسنها وتصاوير فيها قال : " أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً ، ثم صوروا فيه تلك الصورة ، أولئك شرار الخلق عند الله عز وجل "
* * *
والمقصود أن الفساد لما اتنشر في الأرض وعم البلاء بعبادة الأصنام فيها ، بعث الله عبده ورسوله نوحاً عليه السلام ، يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، وينهي عن عبادة ما سواه
فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض ، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي حيان ، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة ، قال : " فيأتون آدم فيقولون : يا آدم أنت أبو البشر ، خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من ورحه ، وأمر الملائكة فسجدوا لك وأسكنك الجنة ، ألا تشفع لنا إلى ربك ؟ ألا ترى ما نحن فيه وما بلغنا ؟ فيقول : ربي قد غضب غضباً شديداً لم يغضب قبله مثله ، ولا يغضب بعده مثله ، ونهاني عن شجرة فعصيت ، نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح
فيأتون نوحاً فيقولون : يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض ، وسماك الله عبداً شكوراً ، ألا ترى إلى ما نحن فيه ألا ترى إلا ما بلغنا ؟ ألا تشفع لنا إلى ربك عز وجل ؟ فيقول : ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله ، نفسي نفسي " وذكر تمام الحديث كا أورده البخاري في قصة نوح
فما بعث الله نوحاً عليه السلام ، دعاهم إلى إفراد عبادة الله وحده لا شريك له ، وألا يعبدوا معه صنماً ولا تمثالاً ولا طاغوتاً وأن يعترفوا بوحدانيته ، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه ، كما أمر الله تعالى من بعده من الرسل الذي هم كلهم من ذريته ، كما قال تعالى : " وجعلنا ذريته هم الباقين " وقال فيه وفي إبراهيم : " وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب " ، أي كل نبي من بعد نوح فمن ذريته ، وكذلك إبراهيم
قال الله تعالى : " ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت " وقال تعالى : " واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون " وقال تعالى : " وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون "
ولهذا قال نوح لقومه : " اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم " وقال : " أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم " وقال : " يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون " وقال : " يا قوم إني لكم نذير مبين * أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون " : و" وقد خلقكم أطوارا " الآيات الكريمات
فذكر أنهم دعاهم إلى الله بأنواع الدعوة في الليل والنهار ، والسر والإجهار ، بالترغيب تارة والترهيب أخرى ، وكل هذا لم ينجح فيهم ، بل استمر أكثرهم على الضلالة والطغيان ، وعبادة الأصنام والأوثان ، ونصبوا له العداوة في كل وقت وأوان ، وتنقصوه وتنقصوا من آمن به ، وتوعدهم بالرجم والإخراج ، ونالوا منهم وبالغوا في أمرهم
" قال الملأ من قومه " أي السادة الكبراء منهم : " إنا لنراك في ضلال مبين "
" قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين " أي لست كما تزعمون من أني ضال ، بل على الهدى المستقيم رسول من رب العالمين ، أي الذي يقول للشيء كن فيكون : " أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون " وهذا شأن الرسول أن يكون بليغاً ، أي فصيحاً ناصحاً ، أعلم الناس بالله عز وجل
وقالوا له فيما قالوا : " ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين "
تعجبوا أن يكون بشر رسولاً وتنقصوا من اتبعه ورأوهم أراذلهم ، وقد قيل إنهم كانوا من أفناد الناس وهم ضعفاؤهم ، كما قال هرقل : وهم أتباع الرسل ، وما ذاك إلا لأنه لا مانع لهم من اتباع الحق
وقولهم : " بادي الرأي " أي بمجرد ما دعوتهم استجابوا لك من غير نظر ولا روية وهذا الذي رموهم به هو عين ما يمدحونه بسببه رضي الله عنهم ، فإن الحق الظاهر لا يحتاج إلى روية ولا فكر ولا نظر ، بل يجب اتباعه واإنقياد له متى ظهر
ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مادحاً للصديق : " ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت له كبوة غير أبي بكر ، فإنه لم يتلعثم " ، ولهذا كانت بيعته يوم السقيفة أيضاً سريعة من غير نظر ولا روية ، لأن أفضليته على من عداه ظاهرة جلية عند الصحابة رضي الله عنهم ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يكتب الكتاب الذي أراد أن ينص فيه على خلافته فتركه ، قال : " يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر " رضي الله عنه
وقوله كفرة قوم نوح له ولمن آمن به : " وما نرى لكم علينا من فضل " أي لم يظهر لكم أمر بعد اتصافكم بالإيمان ولا مزية علينا " بل نظنكم كاذبين * قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون
وهذا تلطف في الخطاب معهم : ترفق بهم في الدعوة إلى الحق ، كما قال تعالى : " فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى " وقال تعالى : " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن " وهذا منه
يقول لهم : " أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده " أي النبوة والرسالة ، " فعميت عليكم " أي فلم تفهموها ولم تهتدوا إليها ، " أنلزمكموها " أي أنغصبكم بها ونجبركم عليها ؟ " وأنتم لها كارهون " أي ليس لي فيكم حيلة والحالة هذه ، " ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله " أي لست أريد منكم أجرة على إبلاغي إياكم ما ينفعكم في دنياكم وأخراكم ، أن أطلب ذلك إلا من الله الذي ثوابه خير لي ، وأبقى مما تعطوني أنتم
وقوله : " وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون " كأنهم طلبوا منه أن يبعد هؤلاء عنه ، ووعدوه أن يجتمعوا به إذا هو فعل ذلك ، فأبى عليهم ذلك ، وقال : " إنهم ملاقوا ربهم " أي فأخاف إن طردتهم أفلا تذكرون
ولهذا سأل كفار قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرد عنه ضعفاء المؤمنين ، كعمار وصهيب وبلال وخباب وأشباههم ، نهاه الله عن ذلك ، كما بيناه في سورتي الأنعام والكهف
" ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك " أي بل أنا عبد رسول ، لا أعلم من علم الله إلا ما أعلمني به ولا أقد إلا على ما أقدرني عليه ، ولا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله : " ولا أقول للذين تزدري أعينكم " يعني من أتباعه " لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين " أي لا أشهد عليهم بأنهم لا خير لهم عند الله يوم القيامة ، الله أعلم بهم وسيجازيهم على ما في نفوسهم إن خيراً فيخر وإن شراً فشر ، كما قالوا في المواضع الأخر : " أنؤمن لك واتبعك الأرذلون * قال وما علمي بما كانوا يعملون * إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون * وما أنا بطارد المؤمنين * إن أنا إلا نذير مبين "
* * *
وقد تطاول الزمان والمجادلة بينه وبينهم كما قال تعالى : " فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون " أي ومع هذه المدة الطويلة فما آمن به إلا القليل منهم
وكان كلما انقرض جيل وصوا من بعدهم بعدم الإيمان به ومحاربته ومخالفته وكان الوالد إذا بلغ ولد وعقل عنه كلامه ، وصاه فيما بينه وبينه ، ألا يؤمن بنوح أبداً ما عاش ودائماً ما بقي
وكانت سجاياهم تأبى الإيمان وإتباع الحق ، ولهذا قال : " ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا "
ولهذا : " قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين * قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين " أي إنما يقدر على ذلك الله عز وجل ، فإنه الذي لا يعجزه شيء ولا يكترثه أمر ، بل هو الذي يقول للشيء كن فيكون
" ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون " أي من يرد الله فتنته فلن يملك أحد هدايته ، هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، وهو الفعال لما يريد ، وهو العزيز الحكيم ، العليم بمن يستحق الهداية ومن يستحق الغواية ، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى